2018/07/26

وضعيات التعلم


وضعيات التعلم

الوضعيَّات مفردُها وضعية، والوضعية: صفة لتَموْضُعٍ معين، تموضع المعلم والمتعلم، لممارسة فعل التعليم والتعلم؛ تَعني الوضعياتُ في الغالب الظروفَ والسياقات التي يُجرى فيها النشاط، أو يَدور فيها الحدث التربوي.

ففي معجم أكسفورد الإنجليزي نجد أن الوضعية (Situation) تَعني: مُعظم الظروف والأشياء التي تقع في وقت خاص، وفي مكان خاص، وتقترن الوضعية بدلالة أخرى، وهي السياق، الذي هو عبارة عن وضعية يقع فيها الشيء، ويساعدك بالتالي على فَهمه.
قد تكون وضعية بيداغوجية أو ديداكتيكية، أو هيئة لترتيب الفصل، ولتنفيذ سيناريو بيداغوجي معين يقتضيها، أو تأتي بمعنى وضعية التسوق، ووضعية الإتيان بالأطفال من المدرسة، ووضعية فقدان المفاتيح... إلخ، إنها وضعيات كثيرة نشهدها في الحياة عمومًا.                    

هناك تموضعٌ للمُدرس وتموضع للمُتعلم، والتناسقُ بين الوضعيَّتين ضروري ليَحدث التعلم والتعليم المنشودان، ودرءًا للتنافر والنُّشوز؛ فكل عدم انسجام يؤثر سلبًا على العملية التعليمية التعلُّمية.

الجديرُ بالذكر أن التعلم يحدث في وضعيات مختلِفة؛ إمَّا قصدية مع المعلم، أو غير قصدية (عَفْوية).
• القصدية كما في المدرسة والورشات التعليمية التعلمية...
• وغير القصدية كما في الأسرة والشارع ووسائل الإعلام...
وضعية التعليم والتعلم وضعيةٌ تتحقق في سياق معين، هو القسم الدراسي غالبًا، وتتفاعل فيها أطرافٌ مُشاركة، تتكون من المدرس والتلاميذ...
وتتكون كل وضعية تعليمية تعلمية من عناصر أساسية، نذكر بعضها:
1. المَادةُ التعليميةُ (المحتوى): وهي المادة الدّراسية التي تتكونُ منْ مُحتوى المادة المراد نقلها للتلاميذ؛ مِن أفكار وتصورات، ومواقفَ ومهارات، والتي نتوخى أن يتعلمها ويكتسبها المتعلم، ولا ننسى المنهاج والبرامج والتوجيهات المؤطِّرة للمحتويات.
2. أنشطةُ التعليم والتعلم، وهي الكَفيلة بتصريف المحتوى ومَوارد التعلم.
3. المُدرس: باعتباره عُنصرًا فاعلًا في العملية التعليمية التعلُّمية، لا بديل عنه، ولا يمكن للتقنيات ولا الآلات أن تعوض قصديَّته وفنِّياته، وسرعة استجابته ولياقته الأدبية.
4. المُتعلم: الذي يتَفاعَل مع المادة والمدرس معًا، وكذا مختلِف السياقات داخل الصف، وما يرتبط به من شروط، سواء تعلق الأمر بالشروط التي ترتبط بذاته، أو تلك التي ترتبط بالوضعية التعلُّمية التي يُوجد فيها.
5. المعيَّنات الديداكتيكية والوسائل المساعدة: وتشمل المصادر والموارد المادِّية والبشرية التي تُستخدم باعتبارها مصادرَ للتعلم وأدواتٍ مساعدةً له.
6. السِّياق: الذي يقع فيه التفاعل (الزمان - المكان - الوحدة الدراسية - المناسَبة...)، وقد يكون السياق مدرسيًّا في بؤرة الفصل أو في إطار النوادي التربوية، التي تعتبر تتمَّة وتكملة، بل هي امتدادٌ طبيعيٌّ للفصل.
7. إستراتيجية التعليم والتعلم: وتختلف وتتنوع، يَختار منها المدرس ما يناسب الدَّرس، وليست هناك طريقة مثالية أو نظريةٌ تعليمية تعلُّمية شمولية.
8. التقويم: ويتخللُ كلَّ مراحل العملية التعليمية التعلميةتقويمٌ، يلتزمُ شروط الفعالية، والتقويم أنواعٌ متعددة؛ منها التقويم التشخيصي في بداية الحصة الدراسية، والتقويم التكويني (أو المستمر) في أثنائه، أو تقويم إجمالي في آخر الحصة، وبعدَ تقديم كل التعلُّمات المُقرَّرة، أو تقويم إشهادي (على إثره تُسلَّم شهادة التكوين أو التعلم أو نهاية السلك...)، وقد يكون التقويم كتابيًّا أو شفهيًّا.
والتقويم عملية منظمة دقيقة نسبية طبعًا، هدفها إخراج عمليات الانتقاء والفرز والتصنيف من العَبث والفوضى إلى الصرامة العِلمية والمنهجية، وللتقويم وظائفُ متعددة؛ منها: اختبار القدرات والكفاءات - تصحيح مسار العملية التعليمية التعلمية، وتَدارُك الأخطاء - النقد والتوجيه - التحفيز والتعزيز...
أفضل وضعيات التعلم:
أفضل وضعيات التعلم ما يتيح للمتعلم أن يتحرَّك ويتفاعل، ويشارك وينتج، ويتكلم ويستمع، ويكتب ويحس، ويستشكل ويدرك، وغاية الغايات أن يكون قادرًا على تصريف تعلمه في الحياة العملية.
ونأسف كلَّ الأسف عندما لا ندرك الجسور الممتدة بين المدرسة والواقع (الحياة)، عندما نجد المتعلم في المرحلة الثانوية درس "درس المعادلات"، وما زال يستعمل أصابعَه في الحساب، أو تجده قد انصرف من درس ذي طبيعة بيئية مباشرةٍ أو غير مباشرة، ثم يُلقي بالنُّفايات والمخلَّفات في المدرسة ومحيطها، أو يلوِّث الجدران أو يعبث بالنباتات، وقد حصل على نقطة الامتياز، فرِحًا مسرورًا بها.
فهل كتب هذا الفصام على مَدارسنا، أو أنَّا فَشِلنا في تدبير الانتقال بالمتعلم من العمَلي (الدروس) في الفصول إلى العمل في الواقع والفعل فيه؛ من أجل مدرسة لتغيير المجتمع وتحريك دواليبه؟!
إن هناك وضعياتٍ محفزةً على التعلم، ووضعيات أخرى منفرة؛ والوضعيات المحفزة تورط المتعلم في النشاط التعليمي التعلمي، تورطه ليس من باب الإكراه، بل من باب الاستدراج والتمييل، والترغيب والقصدية.
وتجدر الإشارة أن لا تدريس فعالًا بدون تحفيز؛ فالسلوك الذي لا يحفز يَضمُر أو يتلاشى ويتقهقر، وأفضل أنواع التحفيز "التحفيز الذاتي"، النابع من الذات والقوة الباطنية الخفية، ولا غُنيَة عن التحفيز الخارجي.
لا إكراه في التعليم، هذه قاعدة نفيسة، يتعامل مع التلميذ النافر من التعلم تعاملًا خاصًّا، بمنطق الاستقطاب والاستدراج، وعند اكتشاف مجاله الذكائي يوجَّه إليه ويُحتضَن فيه؛ فمِن الأخطاء التي تُرتكب في المدارس أن يُلزَم المتعلم بمقعد لا يُريحه، ولا يحبه، طبعًا ينبغي أن تفتح ورشات العمل والتأهيل المهني حسب كل الرغبات، وينتقل لها بسلاسة؛ لأن الورشة نوعٌ من التعلم، لا يًستهان به.
وظيفة المدرس:
• إنتاج تصميم وهندسة ووضعيات نشيطة فعالة، في إطار الكفايات الأساسية في المادة.
• تغيير عناصر الهندسة التشكيلية لحفز المتعلمين واحتضان الشاردين أو غير المتوافقين.
• المدرس منشِّط ومحفِّز، وضابطٌ للإيقاعات، وحريص على التنزيل السليم للميثاق (العقد البيداغوجي المتفَق عليه في الحصة أو في المنهاج).
• يقوِّم ويساعد على التقويم الذاتي، وينظم عملية التقايم بين المتعلمين (متعلِّمون يقوِّمون بعضهم).
• ينبغي أن يظل همُّ المدرس كلُّ همه - بل والمدرسين في المادة - تقويمَ الطريقة المسلوكة في بناء وضعيات التعليم والتعلم، مع تشارُك وتقاسم التجارِب الناجحة بسَلاسة بين المدرسين والمدرسات، بعد المصادقة عليها من طرَف هيئة الإشراف التربوي، وطبعًا هنا نشير إلى الصلاحيات التي يجب أن تُخوَّل لأهل الميدان، بعيدًا عن تحكُّم وعرقلة رجل السياسة، وتدخله في أمر لا يَستوعبه؛ إلا بمنطق الإيديولوجيا.
عندما نتحدث عن وضعيات التعلم فنحن نستحضر ما هو ديداكتيكي منهجي وبيداغوجي تربوي (نفسي - اجتماعي - بيئي - ثقافي - ذكائي - قيمي...).
انتقاء وضعية معينة للتعليم والتعلُّم (نشاط حس حركي - مهاري أو معرفي وجداني، أو نشاط منوع تستحضر فيه كل جوانب الشخصية)، يكون وَفقًا لشروط وضوابط، ولا يكون عملية ارتجالية أو خاضعةً للصدفة والعبث.
فالعملية التعليمية التعلمية تخضع للتخطيط المحكَم، كسائر العمليات المعقلَنة؛ من تلك الشروط طبيعة الدرس أو الوَحدة التربوية (طبيعة المادة) - طبيعة الأهداف المبتَغاة - طبيعة البيئة التي ينتمي لها المتعلم، وهنا نستحضر السيوثقافي - طبيعة الأحداث الرائجة؛ لأن توظيفها غاية في الأهمية ومطلب حضاري؛ ليكون المتعلم على دراية بما يجري.
وهنا ننبه إلى ضرورة تَحلِّي المدرس بالنباهة الكافية؛ كيلا يُقحِم السياسية والتسيس في العملية التربوية - ويتموضع موضعًا إيديولوجيًّا.
فالواجب أن تكون الوضعية التعليمية التعلمية وضعيةً واقعية؛ إنْ في الصياغة أو الطرح، أو الأمثلة والنماذج، أو في التكيف مع الوسائل والأدوات المتاحة، أو في طرق التقويم (بين تقويم محكيٍّ وتقويم معياري...).
فوضعية الدرس المفتوح - مثلًا - تقتضي تقويمًا مفتوحًا، لا تطلب فيه إلا العموميات التي تناولها، لا من باب الاسترجاع طبعًا؛ لأن التدريس الحديثَ في غُنية عن الترديد الذي كَفَتْنا عناءَه الآلات، إنما أن يستلهم الحس المنهجي في الطرح والصياغة، ويقبل عند التقويم كل مُقارب ولو كان مخالفًا أو بمقاربات مختلفة، والعلامات توزَّع حسب درجات التمكُّن (أعلى - متوسط - أدنى)، مع استحضار حس الإبداع.
أشرنا سابقًا إلى أن بناء الوضعية التعليمية يتطلب خطةً مُعقلَنة محكَمة للتنفيذ، بتدخُّل ومساعدة علم الديدكتيك، الخاص والعام، ولكل مادةٍ دراسية معينة طريقةٌ وأسلوبٌ منهجي مقترَح رسمي لتصريف المادة، يشمل مجموعةً من الخطوات والمبادئ، والتعليمات والهندسات المحدَّدة في الزمان والمكان والمؤشرات، ونحن في حاجةٍ ماسةٍ - في المغرب - إلى إعادة بناء الخطط الديدكتيكية؛ لأنها في نظري متجاوزةٌ أو تَعرف تضخمًا، ولا تُساير التغييرات والسياسات التعليمية المتبعة.
تلك التغيرات التي عرَفها المتعلم في عصر التكنولوجيات والشبكات والوسائط المختلفة؛ الظاهر في الهندسة الديدكتيكية المواكبة، ولكن الواقع في الأقسام مخالف، ولتعديل الخطط التدريسية - التعليمية؛ يجب أخذُ رأي الأساتذة الممارسين في الأقسام، وإجراء دراسةٍ تقيمية للجدوى الديدكتيكي، وقد أجزِم أنْ لا دراسة عِلمية في هذا الصدد.
معروفٌ مثلًا أنَّا انتقلنا - أو يجب أن ننتقل - من التعليم التَّلقيني إلى التعليم الفعال، ولكن لا ندري هل نجَحنا في هذا الانتقال؟ ولا ندري هل كانت الطرائق البيداغوجية المتبَعة ناجحة؟ ولا ندري هل هناك دراسة علمية - مغربية - في المجال؟
على حد علمي: الارتجالُ سيد الموقف؛ نقلٌ وترجمة وتَبَنٍّ لمرجعيات نطبِّل لها، وسرعان ما نتخلى عنها رسميًّا لننتقدَها! يظل كل ذلك حبرًا على ورق!
فأين ما قيل عن إرجاء بيداغوجيا الإدماج حتى إجراء دراسة أو تقييم؟ فأين التقييم؟!
أوَلَم يَأْن الأوان ليُترك أمرُ التربية لرجال التربية، بعيدًا عن السياسة بمعناها الضيق؟!
صلة البيداغوجيا بوضعيات التعلم والتعليم:
إن البيداغوجيا بمثابة المرهم المليِّن لمفاصل العملية التعليمية التعلمية، وأضرب مثالًا له: كنتَ بصدد إلقاءِ درسك، وفقًا لخطةٍ ديدكتيكيةٍ معينة، فتدخَّل فجأة أحد المتعلمين يخاطبك قائلًا: "أنت أستاذٌ فاشل، لا تصلح لهذه المهنة!" فهل تواجهه بالعنف، أو تختار أسلوبًا آخر؟
هنا تتدخَّل البيدغوجيا وعلوم التربية.
الدرس البيداغوجي يعلمك الحكمة، والسياسة الحكيمة والرشيدة في تدبير الفضاء الصفِّي وترتيبه تربويًّا؛ بناءً على أهداف دقيقة، أنت واعٍ بها (قصديَّة العمَلية التعليمية التعلمية)، عندما تدرك المرحلة العمرية التي يَحياها المتعلمون، وخصائصَهم النمائية، وفروقاتهم الفردية، وطبيعة بيئتهم، ونماذجهم، ومُثلَهم، وعاداتهم، وتعلماتهم السابقة، ووضعيتهم الصحية، وتعرف بموازاة ذلك ما يجب عليك، وما تعاقَدْتم عليه في المنهاج التربوي؛ مِن قيم ومهارات ووجدانيات ومعارف، عندما تدرك ذلك كلَّه تكون على بيِّنة من أمرك، وتستحق بالفعل أن يطلق عليك لفظ مُربٍّ.
الفرق بين التعليم وغيره من المهن أنك في المدرسة - والمؤسسات التربوية عمومًا - تُمارس التربية بشكل مباشر وغير مباشر؛ فالهدف من الأنشطة والمداخل البيداغوجية هو التربية؛ سواء تعلق الأمر بالمواد الأدبية، أو العلمية، أو التقنية.
ولا ينبغي أن يَغيب هذا الهدف عن أذهان المربِّين والمعلمين، والمشاركين في تدبير المدارس والمؤسسات التربوية، ولا ينبغي كذلك أن تكون ردود الأفعال في الفصل والساحة المدرسية ردودَ أفعال شخصية، أو ذاتَ صبغة انتقامية ذاتية، تَخرج فيها السلوكات عن السيطرة.
إنَّ طموحنا وما نتشوَّق له - والخير كثير والحمد لله - هو مدرِّس مربٍّ عادل ومنصِف، حازم وصارمٌ حيث يجب أن يكون حازمًا، وعطوف حنونٌ رؤوفٌ يُدير فصله بالصرامة الحكيمة، لا بالعنف والتسلط والقهر، ولا نريده مدرسًا مستهتَرًا، وكأنه غير معنيٍّ بما يَجري في الفصل والساحة التربوية.
ونُقِر أن المدرسين لا يتمرَّنون بشكل عِلمي على فنون تدبير الفصل وإدارة جماعته، لا أقصد ما يتعلمونه من أقرانهم، في إطار تَقاسُم التجارِب أو ما يتعلَّمونه مع الأساتذة المرشدين، فرغم أهميته فإنَّ التدريب لا يتأسَّس على ضوابطَ علمية تؤهِّلهم للتعامل مع تلميذ معاصر، ولا ننفي أن المتعلم اليوم من نوع خاص وفريد؛ لظروف وحيثيات موضوعية وعالمية.
صراحةً إن الملاحِظ يَكاد يسجل غياب الحسِّ التربوي أو انعدامَه في وضعيات التعلم في الساحات والفصول، وفي حالات كثيرة؛ إما راجعة أسبابه لهيمنة الذاتي على القصد التربوي، أو راجعة لطبيعة المتعلمين في عصر التكنولوجيات والحداثة وما بعدها، أو راجعة لقصور مناهجنا البيداغوجية في التعامل مع الوضع، أو راجعة لتصميم المدارس والفصول، أو راجعة لسياسات تعليمية معيَّنة، أو راجعة لذلك ولغيره.
ولا نخفيكم أن المدرس متَّهَم، وهو آخر حلقةٍ تتَّجه لها الأنظار قاصدةً، سواءٌ تعلَّق الأمر باتهامات الأُسَر أو الإدارات المشرفة على الحقل التعليمي أو السياسيين أو غيرهم، وذلك راجع في نظري إلى ضعفِ تعبئة المدرسين ودفاعهم، وشرحهم لوضعياتهم وهواجسهم، وما يعيق ويثبط أعمالهم... فلما توانَوْا وانكمشوا طغَت عليهم التصورات الأخرى، وأُلصقت بهم كثيرٌ من التهم، التي استطاع أصحابها أن يسوِّقوا لها ببراعة، بينما ظل المدرس يترنَّح بين القسم والمقهى والبيت، ينتقد الوضع بينه وبين نفسه.
في حالات كثيرة، وعند إجراء تقييمات جزئية - تكون في الغالب غيرَ خاضعة لمعاييرَ عِلمية - للأعمال والنتائج والمراتب التي تبوَّأها البلد (المغرب) في حقل التربية والتعليم، تتجه أنظارُ كثيرين إلى ما هو بيداغوجي وديدكتيكي؛ لتنحصر النظرة والمشكلة في القسم! وهذا تغليطٌ وتحريفٌ لمسار البحث وتحيُّز واضح؛ لأن تأثُّر الوضعيات التعليمية بالسياسية وخُططها أكبر من غيره، ولأنَّا نبَّهنا إلى أن الإشراف على التعليم يجب أن يكون تحتَ وصاية التربويين؛ بناءً على دراسات وأبحاثٍ دقيقة تُراعي الإمكانيات المالية للبلد وخصائص المتعلمين، ولا ينبغي أن تَخرج آراء التربويين عن نطاق القيم المجتمعية المتعاقَد عليها.
وفي صلة الوضعيات التعليمية بالجوانب الوجدانية:
تكاد تكون الجوانب الوجدانية - من شخصية الطفل المتعلم - غائبةً على أرض الواقع، ولا ننكر أن الجوانب الوجدانية والقيمية مثبَتةٌ في الورق والوثائق الرسمية المحدِّدة للمَعالم الكبرى، بل والصغرى، في وثائق المدرسين وتوجيهات المواد.
وقد يظهر الاهتمام بالجوانب الوجدانية في بعض المواد عند بعض المدرِّسين، لكنها سرعان ما تغيب في موادَّ ودروسٍ تقنية وأدبية، وكأن بعضهم غيرُ مَعنيٍّ بها؛ فبراعتك أيها المربي في إدماج الملح الوجداني في المنهاج الدراسي!
إننا نستحضر الضغوط التي يُعاني منها المدرسون والإداريون، في قلب الحدث وساحة المعركة، ونستحضر الاكتظاظَ ومشاكل العنف والتسيُّب وقلة الموارد البشرية، ومشاكل جمَّة تعرفها المؤسسات، وندرك طول المقرر، الذي يطارد كلَّ الأساتذة، وخصوصًا الأساتذة الذين تُسنَد لهم المستويات التي يطالَب فيها المتعلمون باجتياز اختبارات وطنية أو جهوية.
ونستحضر في هذا السياق استقالةَ أسَرٍ كثيرة عن متابعة أبنائها ورعايتهم وجدانيًّا، بل وتعتبر أسرٌ منها المدرسة مخلصًا لها من شَغْبهم وعنفهم في الشوارع والأزقَّة، ويطرح هذا المشكل بحدَّة في العطل المدرسية.
لا ينبغي عمَليًّا - من باب الإنصاف - أن يُحمَّل المدرسون والإداريون، والمشرفون على الحقل التربوي فوقَ طاقاتهم.
الوضعية التربوية شراكة بين مؤسسات كثيرة؛ منها الأسرة والمدرسة، والإعلام والشارع، والوَحْدةُ بينهما في الأهداف والمقاصد والغايات - ولو اختلفت الوسائل - كفيلةٌ بتنشِئة جيل صالح، يقدِّر القيم ويتذوَّق الجمال.
القيم الوجدانية تُمرِّن المتعلم على السلوك الإنساني الحضاري الراقي؛ تأصيلًا لحس تذوُّق الجمال والعناية به وإنمائه، ولكنَّ هناك إشكالًا في تِقنيات تقويم الجوانب الوجدانية؛ تقويم بعيد عن الورق والأسئلة المباشرة أو غير المباشرة، وهذا موضوع ينبغي التفكير فيه بالجدية المطلوبة.
يمكن أن يكون التقويم في صيغة أعمال ونشاطات خيرية، أو إنسانية أو بيئية في فضاء المؤسسة، أو منفتحًا على غيرها، ينخرط فيها المتعلمون عن طواعية، ويَميلون إليها عن حب، أو يمكن أن يكون هذا بمثابة تمرين يحبِّبهم في الأنشطة.
التنشيط التربوي:
التنشيط التربوي كفيل بتحقيق غايات تربوية كثيرة ومتعددة، وكفيل بإخراج الوضعية التعليمية التعلُّمية من شرنقة الرَّتابة والتَّكرار الغبي إلى الحيوية والنشاط، والفاعلية والإحساس بمتعة التعليم والتعلم.
ليست مهمة المدرِّس مقتصرةً على حَقْن الأذهان بالمعلومات والأفكار، والتصورات والمواقف، بل إنه مربٍّ، يُنمي الناحية المعرفية للمتعلِّم، ويساعده على النمو من جميع الجوانب العقلية والروحية، والجسمية والنفسية والعاطفية، ويُكسِبه الاتجاهات الصحيحة في الحياة والوجود، فتكون المعلوماتُ وسيلةً لا غاية في ذاتها.
فليس المقصود - على سبيل المثال - أن (يَعرف) الطالب أن الصِّدق صفةٌ حميدة، بل الهدف أن (يتمثَّل) الصدق في تعامله وأقواله وأفعاله، وليس الهدف أن يَحفظ القواعد، بل أن يطبِّقها في مشاكله وحياته اليومية؛ إنها النزعة التطبيقية!
التنشيط التربوي: عمليات يقوم بها المدرِّس الفعال المنتج؛ لِجَعل المتعلم في صُلب العملية التعليمية التعلمية، مشاركًا منتجًا، مبدعًا نشطًا، منتقدًا بانيًا، عنصرًا فاعلًا في نفسه ومحيطه؛ يعني: أن التنشيط التربويَّ يُعطي للدرس المعنى والروح؛ كيلا تتحوَّل العملية إلى حشوٍ مباشر للتعليمات والموارد.
والمدرس الفعال: يَستثمر كلَّ المقارَبات التربوية والبيداغوجية الفعالة التي تجعل المتعلِّم في صُلب العملية التعليمية التعلمية.
نماذج وتعريفات موجزة لبعض طرائق التنشيط، وهي كثيرة؛ نذكر منها:
• تقنية العصف الذِّهني:(Brainstormin) عبارة "العصف الذهني" هي ترجمةٌ للَّفظ الإنجليزي (brainstorming)، وقد تُترجَم أيضًا بعبارات أخرى؛ كتحريك الفكر، أو التداعي الحرِّ للأفكار، أو إثارة الذهن، أو الزوبعة الذهنية؛ للإشارة إلى وضعية (مشكِلة) تتطلب حلًّا؛ مما يجعل الذهن في حالة شبيهةٍ بالزوبعة أو الفوران؛ نظرًا لتعدد الحلول وتعارضها، والأمر يَقتضي هنا قَبولها كلِّية دون نقدٍ أو تقييم، وتأتي مرحلة التدخل والغربلة متأخرةً، لئلَّا تعطل أو تَحبس التدخلات المحتملة.
• تقنية "لعب الأدوار":(Jeu de rôles) تقرأ الجماعة المتطوعة للَعِب الأدوار نصًّا أو حكاية تتضمن شخوصًا وأدوارًا وأحداثًا، ويعملون على تشخيصها (ارتجالًا أو إعدادًا) أمامَ بقية المشاركين، وبعد التمثيل يُفتح باب النقاش حول الأداء والمواقف.
• تقنية "دراسة الحالة" (Etude de cas): يقدِّم كلُّ مشارك رأيه في حالة أو وضعية معروضةٍ تُلامس واقع المتعلمين، مدعَّمًا بحجج، سواء داخل جماعته أو أمام الجماعة الكبرى (الحالة هي وضعية - إشكالية مؤسَّسة على تجرِبة واقعية أو مفترَضة).
• تقنية "الشهادة " (Témoignage): يَحكي كلُّ عضوٍ شهادةً واقعية (تجرِبة مَعيشة)، لها علاقة بالموضوع المدروس؛ لكي تحظى الشهادةُ باستحسان الأعضاء، ويجب أن تخضع لإجراءات منهجية، يَحكي كل شخص تجربةً واقعية تعرَّض فيها لانتهاكاتِ حقوق الإنسان مثلًا.
• تقنية " لغة الصورة " (Photolangage): أمام مجموعة من الصور المتنوعة الملقاة على طاولة، يَختار المشاركون بصمتٍ صورةً أو أكثر، ثم يعللون سببَ انتقائهم لتلك الصور التي أثارت اهتمامهم.
• تقنية " فيليبس (x6 6 "(6x6 Philip ينقسم المشاركون إلى جماعات، كلُّ جماعة تضم 6 أعضاء، في ظرف 6 دقائق، يقدمون إجابات دقيقة ومركَّزة عن سؤالٍ مطروح، أو حلولًا واقعية وعملية لمشكلةٍ ما، أو أفكارًا مدعَّمة بحجج حول حالة موضوع الدراسة.
• ومنها تقنيات حل المشكلات: يقترح المدرس أو أحدُ المتعلمين مشكلةً من المشكلات، في صلةٍ بالمقرَّر أو درسٍ من الدروس، ثم يقترحون خطةً (ديدكتيكية) لمعالجتها، ويشارك كل أفراد القسم في الحل أو اقتراحِ جزء منه، ولا يتسلَّط المدرس ولا يستَبِق الأحداث، فيُحيل أو يلمح للإجابات؛ فقد يأتي المتعلمون بحلول إبداعية.
• المحاضرة المتلوَّة بالمناقشة: ومن الأفضل أن يشرف عليها مجموعةٌ من المتعلمين، أو يستجلبون مَن يحاضر بتنسيق مع الأستاذ والإدارة، وينتبه هنا ويحرص على تتحقق الأهداف المسطَّرة منها، وليَتأكدَ المدرس من تحقق الأهداف؛ يطلب من المتعلمين تدوينَ تقارير شخصية، تتخللها تصويباتٌ ومناقشات.
• وهناك نماذجُ متعددة للتنشيط، وقد يُبدع المدرس تقنيات أخرى، أو تظهر له بالممارسة نماذجُ متعددة؛ فلسفة التنشيط أشَرنا إلى بعضِ عناصرها سابقًا، ونذكِّر بها: أفضل وضعيات التعلم ما يُتيح للمتعلم أن يتحرك ويتفاعل، ويشارك وينتج، ويتكلم ويستمع، ويكتب ويحس، ويستشكل ويدرك، وغاية الغايات أن يكون قادرًا على تصريف تعلُّمه في الحياة العملية؛ فكل نشاط تحققت فيه شروط العقلنة والاستقطاب والنَّجاعة فهو نشاط جيد.
وعلى هذا الأساس يُميَّز في إستراتيجيات التدريس بين:
• إستراتيجيات تقليدية كلاسيكيَّة، يعتبر المعلِّم هو الأساس، من أساطين العملية التعليمية، هو العالم الخبير المتمكِّن، الذي لا يُخطئ، أما المتعلم فجاهلٌ، يجب أن يَلتزم الصمت ولا يتحرَّك حتى يتحقق التعلُّم المنشود، يعتمد التلميذُ المتعلمُ على حافظته بعد تَلقينه النصوصَ والملخصات والمحفوظات والأمثلة، يكرر حتى تتقرَّر المعارف، وتنتقل من الذاكرة الدنيا إلى الذاكرة القُصوى، والمقياس كثرةُ المحفوظ، وقوةُ الاستظهار.
ما يقال في نقد التلقين (أو التعلم بالملعقة):
التلقين: هو تلقِّي المعلومات الخارجية والاحتفاظ بها في داخل الدماغ، بدون العمل على غربلَتِها؛ سواء بالتحقق من درجة صحتها، أو تطويرها، حسب الظروف المختلفة.
وتبقى مخزونًا خامًا، لا مجال أبدًا لنَخْله وغربلته، وتنقيح ما كان في حاجة إلى تنقيح؛ مما يعني أن التلقين إعاقةٌ تامة للعقل البشري، ومنعه من أن يقوم بواجبه الطبيعي المرادِ له خدمةً للإنسانية.
يُقال: إن التلقين: يربي على الخضوع، ويُضعف الإدراك، بل يُعطل ملَكات الفَهم، وهو منهجٌ لا يتَناسب مع ما جدَّت به التكنولوجيات؛ من وسائلَ للتخزين الضخمة التي تتطور يومًا بعد يوم، في شكلِ مكتبات محمولة، إما على مواقع الشبكة العنكبوتية، أو على أقراص، أو في الهواتف، أو غيرها.
• ويقال: إن التلقين يصنع إنسانًا مسلوبَ الإرادة! إنه عملية غير طبيعية، ويؤدي إلى ضعف الإبداع في المجتمعات التي تَبني برامجها وتوجيهاتها على التلقين والشحن.
أسلوب الحفظ في التعليم والتثقيف - الذي لا يُعنى إلا بحشوِ الذهن بالمعلومات - يؤدِّي إلى مخرَجات عبارة عن متعلِّمين من ذَوي الاتجاهات التَّكديسية للنصوص والمعارف، دون النظر في محتوياتها أو نقدها؛ فبِقَدر ما يكون الإنسان قادرًا على الحفظ، بقدر ما تكون له مكانةٌ ومنزلة في المجتمعات التي تَعتني بالحفظ.
التلقين عندهم من رواسب البيداغوجيات القديمة غير الفعالة، والتي لا تَصلح للعصر الحديث، الذي يوفر البديل للحفظ، وحديثنا هنا عن الحفظ ليس على الإطلاق، فبعض الحفظ ضروري إذا تعلق الأمر بنصٍّ من النصوص الشرعية أو معلومات دقيقة لا بديل عنها بغيرها، والحفظ والفَهم قرينان؛ تَفهم ثم تحفظ ما يجب حِفظه.
قلتُ: (يُقال)؛ لأنَّ لي وجهةَ نظر أخرى مخالفة، ليس هذا مجال سردها بحُججِها، ويَرجع لمقالنا "التلقين بين دعوات الرفض وحقيقة الأمر".
ننتقل إلى ما يسمى بالطرق أو الإستراتيجيات الحديثة:
• إستراتيجية فعالة حديثة، أفضَت إليها المستجدات العلمية والبحوث في علوم التربية وعلم النفس وعلوم الذكاء.
وفي هذا الإطار لا نتحدث عن ذكاءٍ لغوي ورياضيَّاتي، كما كان سابقًا، بل عن ذَكاءات متعددة؛ فالمتعلم في إطار هذه الإستراتيجيات ليس صفحة بيضاء، بل صفحة مكتوب عليها ومسطرة، صفحة واضحةُ المعالم.
مهمة المدرس كشف نوع الذكاء الذي يَنْماز به هذا المتعلم عن غيره، وليس هناك متعلم غبي أو كسول أو ساذج، إنما هناك ظروف وأسباب أدت إلى عدم التوافق، وعوامل موضوعية جعلَت هذا المتعلم يتخلف ولا يُواكب؛ ولهذا فللمتعلم مواهبُ أخرى رياضية أو فنية أو حسابية، أو قدرات طبيعة أو ثقافية أو غيرها، فيكون المدرس مطالَبًا بالكشف عن التميز، والمعلم مجرد (شاف أركيسترا) أو بستانيٌّ يَعتني بالنبات، ولا يُنبت بدلًا عن نبات الحديقة، ومع هذا النوع أصبحت وضعيات التعلم نشطة.
هناك مقاربات فعالةٌ متعددة لتصريف التعلمات، لا تلقينها، يَنتقي منها المدرس ما يراه مناسبًا وفعالًا.
هل هي فعالية حقًّا أو مجرد أوهام؟ فإذا كانت الطرائق الفعالة قد أعطَت الصدارة للمتعلم كما تدَّعي، باعتباره المحورَ الذي تدور عليه العملية التعليمية التعلمية، فإن هناك مجموعة من المفكرين والباحثين يَعتبرون أن ما قامت به هذه الطرائق المسماة الفعالة هو مجرد وهمٍ بيداغوجي؛ حسب تعبير بورديو؛ أي: مجرد طِلاء نوهم به أنفسنا وتلامذتنا؛ على أنهم يَحتلون مكانة أساسية في العملية التربوية والتعليمية، في حين أنَّ الواقع لا يختلف عما عليه الأمر في السابق.
ولتوضيح ذلك؛ قام جيلبير لورو بدراسة تحليلية لـ 79 درسًا من الدروس التي اعتُبرت بمثابة دروس فعالة، فيتبين أن المدرس ينسج بلباقة خيوطًا يتبعها التلميذ؛ حتى يتحقق الهدف الذي يسطره الأستاذ، ويكرس الاتكالية عليه بشكل مقنع، انطلاقًا من أسئلة إيحائية؛ مما يجعل التلميذ يُجيب بالشكل الذي يريده الأستاذ، طبقًا لأهدافه المسطَّرة سلفًا، إنها لعبة محبوكة توهِم التلميذ بالمشاركة والأستاذ بالفعالية؛ "سلسلة التكوين التربوي" ع (8)، ص (36).
نقد مناهج التربية الحديثة:
• لم تستطع تلك المناهج ضبط الطفل والتحكم فيه.
• أقصَت كل السلطات؛ بما فيها سلطة المعلم والأسرة.
• لم تمكن الطفل من منهج نقدي رصين، وجعلته عُرضةً لنموذج فكري ثقافي أحادي.
• همَّشَت هويته وخصائصه الحضارية، وطبعته بسِمات غيره.
• دفعت معلميه إلى الانسجام معه عنوةً، بدل أن يعرفوه بالأساليب والنماذج القويمة، فأصبح معلمًا بعدما كان متعلمًا.
• توهم المناهج - المسمَّاة بالفعالة والحديثة - باحترام الطفل وتقدير شخصه، ولكنها تُشيِّئه وتعامله معاملة الأرقام.
• حاربت التربية الحديثة التلقين، وهي في أصلها تلقين، ولكنه مقنِع؛ فما نقوله اليوم ونتحدث به أو نناقشه، إنما هو في الأصل حفظ؛ إما صريحٌ مباشر، أو غير صريح.
• جعلته خادمًا للآلات الاقتصادية، ترسًا من تروسها.
• حرَمَته من اللعب الحر، وعكَّرَت الآلات صفو نشاطه، فهو مضايق حيثما حل وارتحل.
• كرَّسَت التمييز بين أبناء الفقراء والأغنياء، وزادت في الشرخ والبَون بينهما؛ بين من يتلقى تربية قريبة من منطق السوق، ومن يتلقى تربية بعيدة عن منطق السوق، الأمر الذي يجعل الأول متحكمًا في مستقبل الثاني، هنا نشير إلى اللاتكافؤ بين الأطفال...
مدخل الكفايات مدخل فعال:
حريٌّ بالذكر أن مقاربة التدريس بالكفايات هي المقاربة المقررة اليوم رسميًّا في المغرب؛ فالكفاية هي القدرة على مواجهة وضعيات محددة، بالتكيُّف معها عن طريق تعبئة وإدماج جملةٍ من المعارف والمهارات والتصرفات؛ من أجل تحقيق إنجاز محكَم وفعال، أو هي تعبئةُ موارِدَ وتعلمات لحلِّ وضعية مشكلة.
ولا يَعني ذلك أن المدرس لا يَعتمد الأهداف التعليمية التعلُّمية بأنواعها (الهدف العام والخاص والإجرائي)؛ فالكفايات تشكل امتدادًا لا قطيعةً لطور التدريس بالأهداف؛ فهي خادمة للكفايات، تفتت الكفاية إلى مجموعة من القدرات الممتدَّة عبر الوَحدة (مجموع الدروس)، وكل كفاية تتأسس على جملة من الأهداف: الأهداف الكفائية - التي تخدم الكفاية.
والكفاية إما ممتدة أو خاصة نوعية؛ فالنوعية ما كان خاصًّا بمادة معينة أو مجموعة من الدروس.
والكفاية الممتدة أو المستعرضة هي الكفاية العابرة للمواد، التي تَكتسي طابَعًا منهجيًّا صالحًا للاستثمار في مجالات وحقولٍ وموادَّ مختلفة؛ مثل امتلاك آليات التفكير العلمي، أو القدرة على التحليل والتركيب؛ فهي في الظاهر قدرات، ولكنها عمليات معقَّدة، تتداخل فيها مواردُ وتجاربُ متعددة.
ولا تتحقق الكفاية من خلال درس أو درسين، إنما تتحقَّق من خلال وَحدة (مجموعة من دروس)، والذي يتحقق من خلال درسٍ واحد، إنما هي قدرات ومهارات وموارد، عندما تجتمع وتنتظم القدرات والمهارات والتعلُّمات وتتراكب، وتندمج مع بعضها البعض في سياق معيَّن للتعامل مع حالة أو وضعية أو مشِكلة، تُسفر عن تحقق كفاية، نَعني كفايةَ حل المشكلة أو النازلة.
تحدَّث المنهاج الدراسي المغربي عن خمس كفايات:
• الكفايات الإستراتيجية: يتعلق الأمر هنا بمعرفة الذات - والتموقع في الزمان والمكان - التموقع بالنسبة للآخر، وبالنسبة للمؤسسات الاجتماعية والتكيف معها ومع البيئة بصفة عامة - وتعديل المنتظرات والاتجاهات والسلوكيات الفردية؛ وفق ما يفرضه تطور المعرفة والعقليات والمجتمع.
• الكفايات التواصلية: كإتقان اللغة العربية وتخصيص الحيز المناسب للغة الأمازيغية - والتمكن من اللغات الأجنبية، ومن مختلِف أنواع التواصل داخل وخارج المؤسسة التعليمية، في مختلف المجالات - والتمكن من مختلف أنواع الخطاب (الأدبي، العلمي، الفني...).
• الكفايات المنهجية: وتستهدف إكساب المتعلم منهجية للتفكير وتطوير مداركه العقلية،ومنهجية العمل في الفصل وخارجه، ومنهجية لتنظيم ذاته وشؤونه ووقته، وتدبير تكوينه الذاتي ومشاريعه الشخصية، كما تستهدف تعديل المنتظرات والاتجاهات والسلوكات الفردية، وفق ما يفرضه تطور المعرفة والعقليات والمجتمع.
• الكفايات الثقافية: وتشتمل على شِق رمزي يرتبط بتنمية الرصيد الثقافي للمتعلم، وتوسيع دائرة إحساساته وتصوراته ورؤيته للعالم وللحضارة البشرية، بتَناغُم مع تفتح شخصيته بكل مكوناتها، وترسيخ هويته باعتباره مُواطنًا مغربيًّا وإنسانًا منسجمًا مع ذاته وبيئته ومع العالم، وتشتمل الكفاية الثقافية على شق موسوعي، مرتبط بالتمكن من صنوف المعرفة بصفة عامة.
• الكفايات التكنولوجية: حيث إن تنميتها تعتمد على القدرة على رسم وتصور وإبداع وإنتاج المنتجات التقنية، والتمكن من تقنيات التحليل والتقدير والمعايرة والقياس، وتقنيات ومعايير مراقبة الجودة، والتقنيات المرتبطة بالتوقعات والاستشراف، والتمكن من وسائل العمل اللازمة لتطوير تلك المنتجات وتكييفها مع الحاجيات الجديدة والمتطلبات المتجددة، واستدماج أخلاقيات المهن والحِرَف، والأخلاقيات المرتبطة بالتطور العلمي والتكنولوجي بارتباط مع منظومة القيم الدينية والحضارية، وقيم المواطنة وقيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية.

والجدير بالذكر أن هناك كلامًا كثيرًا ومِدادًا غزيرًا سال في (حدَث) الكفايات، إلى حد التخبُّط، وأصدُقكم القول: إنه ما زال مفهومًا غامضًا إنْ ممارسة أو تنظيرًا؛ فلا يغرَّنك كثرةُ ما كُتب فيها أو ما سُطِّر في الكتب المدرسية.
وإذا كنت في ريب مما أقول فاسأل مَن تظنه عَليمًا بها، أن يَصوغ لك كفاية من المنهاج، فالغالب سيَصوغ هدفًا أو مجموعة من الأهداف المشتتة.
الكفايات - كما لا يخفى عليك - مفهوم من مورد اقتصادي، وكذلك كثير من المفاهيم التربوية، تجد طريقها إلى علوم التربية، وتتمَوضَع في سياقات مختلفة؛ ليس هنا الإشكال، الإشكال في التشويه، وسوء الفهم والتنزيل للمفاهيم التربوية في بيئة مختلفة، بشروط مختلفة.
ماذا بعد الكفايات؟
التدريس بالوضعيات تدريسٌ عمَلي أضفى معنًى على الغموض الذي جاءت به الكفايات، وقرب أذهان الممارسين لإدراك المقصود من عملية التعليم والتعلم، بعدَما كاد يغيب الهدف وراء رُكام الكلام.
هي وضعيات تعليمية تعليمة، ووضعيات تقويمية، ووضعيات إدماجية، قبل التخلي عن الإدماج أو إرجاء العمل به، وأنواع أخرى.
الغاية من هذه الوضعيات نقل التعليم من الإطار النظري إلى الإطار العملي؛ أي: صياغة مشاكل ووضعيات أقرب إلى واقع التلميذ.
فعندما يتعامل المتعلم مع وضعيات في صيغة مشاكل ديدكتيكية؛ ليجد لها حلًّا أو حلولًا، وذلك في سَيرورة الدرس، يجد نفسه متورطًا في نماذجَ لمشاكل الحياة اليومية.
إنها وضعيات تُضفي على الدرس الواقعية والحياة، فصار لِزامًا على المدرس بناءُ وضعيات تعليمية تعلمية أو تقييمية، ومن خلال الإجابة عنها تصرف وتمرَّر الموارد أو تُستنفر لحلها (تعبئة الموارد لحل وضعية مشكلة).
وهناك تخبط واضحٌ - للأسف على مستوى الممارسة - بين اختبارات تتضمَّن وضعيات، واختبارات بدون وضعيات، واختبارات يُساق فيها كلامٌ لا يستجيب لمعايير الوضعية؛ إذ ليس كل نص أدبي وضعيةً، وبين من يقترح وضعيةً لكل درس، أو وضعية لكل وَحدة (مجموعة من الدروس)... وهلم جرًّا.
للإشارة؛ هناك فرق بين الوضعيات الحياتية والوضعيات الديدكتيكة:
• الوضعيات الحياتية: وضعيات حقيقية يواجهها المتعلم - مرارًا - في حياته، انكسار قفل - فشل في التواصل مع الأب - ضعف التركيز - الإدمان على الشبكة - نفور الأصدقاء...
• الوضعيات الديدكتيكية: وضعيات يَبنيها المدرس وفقًا لشروط وضوابط، تُراعي السن والمرحلة النمائية والمحيط، والدرس والأهداف والكفاية، والزمن المخصص للحصة والموسم أو المناسبة... وغيرها من العناصر، إنما جعلت هذه الوضعية باعتبارها تمرينًا للوضعيات الحياتية.
وهذه الوضعيات الديدكتيكية، منها وضعية مشكلة في مقدمة الوحدة، تعتبر الدروس بمثابة عناصر حل لها، أو وضعيات مشكلة صغرى تتفرع عن الكبرى، غايتها تعلُّم الموارد أو وضعيات تقويمية، غايتها اختبار قدرة المتعلم على التعامل معها.
خصائص ومواصفات الوضعية - المشكلة:
• أن ترتبط بكفاية الدرس، وأن تَنتميَ لعائلة من الوضعيات التي تَبني هذه الكفاية وتقوِّمها.
• أن تكون دالَّة بالنسبة للمتعلم، تحترم خصائصه ونماءه وبيئته: أي في سياق اجتماعي مرتبطٍ به.
• أن تدور حول عائقٍ أو صعوبة معيَّنة، ويكون التغلب على ذلك إما بشكل فردي أو جماعي (عمل في مجموعات).
• أن تحتويَ على عناصر مشوشة لحلحلة التعلمات.
• أن تحفز التلميذ على استثمار مكتسَباته السابقة، وإدماجها في الحصة الحاضرة.
• أن تكون "وضعية": أي موقفًا أو تجربةً حياةٍ، يمكن للمتعلم أن يدركها.
• أن تتضمن "مشكلة": أي أن تُثير الحيرة والإحراج.
• أن يكون فيها المتعلم فاعلًا أساسيًّا، تَرد عليه الوضعية بصيغةٍ سرديَّة مشوقة.
• أن تكون جديدةً، لم يسبق للتلميذ أن واجهها.
• أن يُستوحَى موضوع الوضعية المشكلة من الواقع الحي في حدود البرامج المقررة.
• أن تتوجَّه في صياغتها إليه بصفته مخاطَبًا؛ فهيَ كفيلة بإقحام التلميذ في المأزق، وتوريطه في تشغيـــل ما يملك من الطاقات العقلية، والمهارات للخروج من المشكلة.
• أن تنطلق من معطَيات تمهيدية مسلَّمٍ بها تؤسِّس عُقدة السؤال.
عرَّجنا في هذا المقال على مجموعة كبيرة من المفاهيم المتصلة بوضعيات التعلم والتعليم، ولم ننسَ فكَّ لغز التفاعل بينها، وصلتها ببعضها، ولم نقتصر فيها على سَرْد ما هو موجود في الساحة، بل كان في كلامنا نقدٌ وتوجيه، واستشراف وتنبيه، وحثٌّ على بحوث علمية بيدا ديداكتيكية - تربوية؛ عسى أن تتلقَّفه الآذان، وتنطلق منها لبناء صرح العملية التعليمية التعلمية من منظور نقدي بَنَّاء متوازن، بعيدٍ عن لغة الشَّغْب، وأسلوب التجاوز والهروب من المشاكل والمعيقات التي تَحول دون التنزيل الفعال للمقاربات التربوية المستوردة أو النظرات المحلية المُستشرفة.